بعد الضجة التي أثيرت إثر قرار وزارة الصحة توقيف العمل بشركة مياه “تنورين” وسحب منتجاتها من السوق بسبب التلوث، والخوف الذي دبّ في نفوس كثيرين ممن يشربون هذه المياه، وبعيدًا عن مدى دقّة الفحوصات التي أُجريت، فإنّ ما حصل يفتح الباب واسعًا أمام التساؤلات حول نظافة جميع مصادر المياه في لبنان، وليس فقط المياه المعدنية المعبّأة.
فمن المفترض أن تؤمّن الدولة، عبر وزارة الطاقة والمياه، مياهًا نظيفة للمواطنين ليستخدموها في مختلف المجالات: الشرب، الطبخ، الغسيل… إذ يدفع المواطن فاتورة سنوية لقاء الحصول على مياه صالحة، لا “مياه براز”.
وزارة الصحة
منذ مدة، أصدرَت وزارة الصحة تقريرًا تضمن إحصاءات حول الأمراض المنتشرة في لبنان، وأشار إلى أنّ عددًا كبيرًا منها ينتقل بين الأشخاص أو عبر المياه أو الطعام أو الحشرات.
ومن بين هذه الأمراض: الحمى التيفية، والتسمم الغذائي، والتهاب الكبد الفيروسي، وأمراض أخرى بكتيرية وطفيلية.
وتُطرح هنا تساؤلات كثيرة حول نوعية المياه، والفحوصات التي تُجرى عليها، وطريقة اختيار العينات، ومدى انتظام عمليات الفحص الدوري.
مياه بيروت
المياه التي تضخها الدولة إلى بيروت، والتي يستخدمها سكان العاصمة، تُثير تساؤلات جوهرية: هل هي صالحة فعلًا؟ وهل تقوم وزارة الطاقة ومؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان بدورهما في فحص المياه وتأمينها نظيفة للمواطنين؟
يأتي ذلك وسط أحاديث متكررة عن أمراضٍ تنتشر بين الأطفال والشباب، وارتفاعٍ ملحوظ في معدلات الإصابة بالسرطان، الذي لم يعد ظاهرة طارئة.
وقد سُجلت عشرات الإصابات الفيروسية الناتجة عن تلوث المياه، بحسب نتائج بعض المستشفيات الخاصة، حيث تبيّن بعد الفحوصات أنّ السبب هو تلوث المياه.
أما المرضى غير القادرين على تحمّل تكاليف العلاج في المستشفيات الخاصة، فيلجأون إلى المستوصفات أو المستشفيات الحكومية، ما يجعل عدد الإصابات الحقيقي أكبر بكثير من المُعلن.
تقرير الجامعة الأميركية
يُعيد هذا الواقع التذكير بتقرير أُعدّ في الجامعة الأميركية في بيروت، تضمّن نتائج فحوصات مخبرية لمياه بيروت خلال الفترة الممتدة من كانون الثاني إلى كانون الأول 2012.
وبحسب التقرير، فإنّ مياه البئر التابعة لمحطة الصبية – ومعظمها من نبع التفّوج – أظهرت ما يلي:
ارتفاعًا طفيفًا في معدل المواد الصلبة الذائبة الكلية (TDS) بين موسمي الجفاف والأمطار (من 244 ملغ/ل إلى 310 ملغ/ل).
تغيّرًا في تركيز الهيدروجين (pH) نحو القلوية (من 7.23 إلى 8.96).
زيادة في القساوة غير الكربونية (30 ملغ/ل).
ثبات معدل الكربون العضوي الكلي (TOC)، مع الإشارة إلى عدم ظهور أي تركّز فيروسي.
ويشير التقرير إلى أنّ هذه النتائج تُظهر تزايد التلوث في المياه المنتَجة نتيجة ارتفاع المواد الصلبة الذائبة، خصوصًا الأملاح غير العضوية مثل:
الكالسيوم، المغنيسيوم، البوتاسيوم، الصوديوم، البيكربونات، الكلوريدات، الكبريتات، وكميات صغيرة من المواد العضوية.
كما شدّد التقرير على ضرورة مراقبة نسبة المواد العضوية (TOC) التي قد ترتفع خمسة أضعاف لتصل إلى 5 ملغ/ل، لأنّ ذلك يؤدي إلى تكوّن مركّبات Trihalomethanes السامة عند معالجة المياه بالكلور.
وظهرت كذلك مؤشرات على وجود مواد معرقلة لنفاذ الأغشية، ومستحضرات صيدلانية وتجميلية ضمن الحدود المسموح بها، نتيجة الكلورة المفرطة.
وأشار التقرير أيضًا إلى أنّ محطة الضبية لا تزيل المواد العضوية بشكلٍ كافٍ قبل عملية الكلورة.
التوصيات
خلص التقرير إلى مجموعة توصيات أساسية لتحسين جودة المياه في شبكات بيروت، أبرزها:
تحسين أداء محطة الضبية عبر تأمين عدد كافٍ من الكوادر الفنية المدربة.
تغطية برك التهوية وأحواض الفلترة للحد من نمو الطحالب وما ينتج عنه من زيادة في المواد العضوية.
تحديد كميات مواد التهوية استنادًا إلى نتائج الفحوصات.
زيادة استخدام الكربون المنشّط في مراحل المعالجة.
ضبط جرعة الكلور باستمرار بعد تحديد نقطة الكلور الأساسية والكمية المطلوبة من الكلور الحر المتبقي.
مراقبة مستويات الكلور الحر على امتداد الشبكة (بين 0.2 و0.5 ملغ/ل).
إنشاء محطات لإعادة الكلورة عند الضرورة.
مصادر المياه الأخرى
لا تقتصر المشكلة على “مياه الشفة” فحسب، بل تمتد أيضًا إلى مياه الصهاريج (السيترنات) ومياه البرادات (الكولر) التي يشتريها المواطنون. فهذه المياه مصدرها أيضًا محطات الدولة، والسؤال:
هل تُعقَّم كما يجب؟ أم تصل ملوّثة بالبكتيريا والجراثيم والأمراض؟
وهل يُكتفى بإضافة كميات مفرطة من الكلور على أساس أنّها تُطهّر، رغم أنّ الإفراط فيه يُسبّب بدوره أمراضًا خطيرة
من يتحمّل مسؤولية هذا الإهمال والاستهتار بحياة اللبنانيين؟
من يُحاسب على ارتفاع معدلات السرطان والأمراض الناتجة عن المياه الملوثة؟
أين وزارة الطاقة والمياه؟ وأين مصلحة مياه بيروت وجبل لبنان؟
ألا يجدر إعلان حالة طوارئ وطنية لوضع حدٍّ لهذا التلوث ومراقبة جميع مصادر المياه في لبنان؟
المصدر | لبنان الكبير















